العمارة وصحة الإنسان

قبل ظهور فيروس كورونا لم يكن الجميع على إدراك تام بدور الفراغ المعماري والداخلي في نشر العدوى ، ولكن الآن بات جليا أن للأماكن المغلقة دورًا في احتواء الأمراض وان لملامسة الأسطح وتبادل نفس الهواء للتنفس أثرًا على صحتنا
وهذا الأمر صحيح كما أثبتته لنا نظرية الجراثيم في عام 1850 ميلادي ،التي اكتشفت بأن مخلوقات حية مجهرية هي السبب في الإصابة ببعض الأنواع من الأمراض وعندما تكون موجودة في بيئة ما فهي تعني احتمالية اصابتنا بهذا المرض
ليوم ومع انتشار الأمراض الموسمية والمعدية بكثرة مثل كورونا والانفلونزا ، أصبح الكثير واعيا بهذا فهو يحرص على تعقيم الأسطح باستمرار وعدم الجلوس مع الأشخاص المرضى وكذلك اغلاق النوافذ باحكام منعًا من دخول الغبار.
وبفعل الزمن تطور مفهوم المسكن و أصبحت نماذج العمارة التي نراها اليوم أكثر نظافة وأكثر حماية من دخول الأحياء المجهرية وابتعدنا بكامل رغبتنا عن البيئات الطبيعية 
فأصحبت شوارعنا مرصوفة بالاسفلت وأبراج ومباني العمل تعتمد على التكييف والتهوية والفلترة الصناعية ، المستشفيات يتم تعقيمها باستمرار وتغلق النوافذ فيها على الدوام
لكن لعلنا ذهبنا بعيدًا في ذلك فمنازلنا أصبحت لا تحتوي حدائق من باب النظافة ، وأطفالنا يلعبون في حوش مفروش بأخر أنواع الجرانيت أو السيراميك أو العشب الصناعي ، ساحات اللعب والرياضة في مدارس الأطفال داخلية ومكيفة حماية لهم، وحتى عندما نصطحب الأطفال خارج المنزل يكون ذلك في قاعات داخلية مخصصة للعب.
ف هل أصبح شكل العمارة مثاليًا من ناحية صحية ؟ 
لقد اتضح لنا اليوم أن هذا التوجه ليس الأمثل لنا وذلك ما استنتجته آخر مستجدات البحث في علم الأحياء المجهرية والبيئة المشيدة
فقد كشفت لنا أن الإنسان بحاجة لبعض الميكروبات النافعة التي يلتقطها من البيئة وذلك للتمتع بمناعة قوية تحميه من الجراثيم الضارة
فبالإضافة إلى التكوين الميكروبي المميز للفرد والذي يحصل عليه من عوامل عديدة مثل جيناته وطريقة ولادته وطعامه ، هناك ميكروبات مكتسبة من البيئة تساهم في التأثير على صحته العامة و مناعته.
ولا يخفى علينا التفاعل الكبير بين الإنسان و البيئة المشيدة وذلك عن طريق استنشاق الهواء الداخلي وملامسة الأسطح الموجودة والنوم فيها وأحيانا قضاء يوم كامل فيها.

أظهرت إحدى الدراسات أن مخاطر الإصابة بالربو والحساسيات الصدرية هي أقل لدى سكان القرى والأرياف مقارنة بالأطفال الذين يسكنون في المدن، دراسة أخرى تشير إلى أن قلة التنوع في أنواع البكتيريا في المدن يقلل فرص الحصول على البكتيريا النافعة ويزيد من احتمالية التعرض إلى الفيروسات والبكتيريا الضارة، دراسة جديدة قام بها علماء لمدة 28 يومًا حيث تم زراعة ساحة مدرسية بتربة ونباتات من غابة محلية ، اظهرت تأثرًا ملاحظا في الميكروبيوم للأطفال وحسنت مسارات تنظيم المناعة.

ولتوضيح ومعرفة أهمية الميكروبات الطبيعية ، في بعض الدراسات التي أجريت على المجتمعات القروية في أفريقيا لاحظوا قلة إصابة الأطفال بالأمراض الرئوية والتنفسية،والسبب كما أتضح هو ضعف مناعة الأطفال الذين لا يقضون اي وقت  في البيئات الطبيعية التي تكثر بها البكتيريا النافعة، أما في المجتمعات المتقدمة فتعد أمراض الحساسيات الصدرية والامراض الموسمية من الأمراض الشائعة جدًا بين الأطفال والكبار
لذا هناك نوعين من الميكروبيوم الذي يتفاعل معه الإنسان 
الميكروبيوم الخاص بالأماكن الطبيعية مثل الحدائقوهو غني بالتنوع البيولوجي والميكروبي ذو الفوائد العديدة للإنسان والحيوان والنبات
microbiome of natural space
و الميكروبيوم الخاص بالبيئات المبنية microbiome of the built environemnt 
وهو يتشكل ويستقى مصادر مختلفة ، فهناك المصادر البشرية لسكان المنزل من لعاب وبخار تنفس وبكتيريا جلدية ، و النباتات والحيوانات الأليفة التي تعيش هناك
وتؤثر عليها عوامل عديدة مثل طريقة وعدد مرات التنظيف للفراغ ، عدد السكان وجنسهم ، طريقة التهوية وحتى موقع المنزل (مثلا على شارع تجاري أو ضاحية) 
لذا لابد من ان تكون منازلنا معززة وداعمة للصحة عبر احتواءها على أنواع من البكتيريا النافعة بالإضافة الى المتعارف عليه من الحرص مستوى الجودة والنظافة الذي يفي من تكاثر الفيروسات والفطريات الضارة بالرغم من أن العلماء لا يزالون في محاولة فهم تركيبة البيئة المكروبية للفراغات المعمارية وأيضا محاولة التدخل واستخدام العمارة كوسيلة لرفع الصحة ورفع جودة الحياة، إلا أن هناك محددات واضحة توصلوا لها، مثل أهمية التهوية الطبيعية ، دور الأسطح الطبيعية التي تحتوي على فراغات ميكروسكوبية أو الأسطح الصناعية التي لا تحتوي على فراغات في تكاثر ونمو البكتيريا في فراغات معينة ، أثر ضوء الشمس في قتل البكتيريا الضارة ، أثر النباتات الداخلية في جلب البكتيريا النافعة للفراغ.
ومن شأن هذه الممارسات والاستخدامات ان تقوم برفع جودة الفراغ المعماري للسكان.
حتى الآن فهذه نصائح مبدئية لتطبيقها فائدة على صحة المستخدمين:

1- حاول الخروج من المنزل إلى حديقة أو مكان طبيعي يوميا ولو لبعض دقائق
2- احرص على تهوية المنزل طبيعيا يوميا وخصوصا عند إصابة أحد السكان بالمرض 
3- احرص على إضافة النباتات الطبيعية الداخلية ، أبدا لا تختر النباتات الصناعية البلاستيكية التي تبعث أبخرة سامة للمنزل
4- اختر المسكن الذي يحتوي على فراغات خارجية ولا تنسى زرعها والاستفادة منها 

أما نصائحنا للمعمارين والمصممين:
1- عند تصميم الفراغات المعمارية لا تنسى أن حاجة المستخدم إلى فراغ صحي توازي حاجته إلى فراغ جميل وإن لم يكن هو واعيا بذلك 
2- لا تنسى أن تشمل التهوية الطبيعية في تصاميمك وابتكر حلول فعالة للحصول على أكبر قدر من الفائدة
3- احرص على اضافة اي عناصر او حدائق بتنوع بيلوجي في تصاميمك
3- الحدائق والفراغات الخارجية ضرورة وليست رفاهية 
احرص على اضافة حدائق وزراعة عمودية فهي ذات تنوع بيلوجي أعلى في المناطق الحضرية 
4- دخول ضوء الشمس أساسي في الفراغات وخصوصا الفراغات التي يتم استخدامها بكثرة 
حاول تحفيز تفاعل المستخدمين مع الطبيعة مثل النباتات والتربة عن طريق التصميم 

بالإضافة لذلك تجري اليوم كثير من الأبحاث من أجل استخدام العمارة كوسيلة لجلب الصحة وليس فقط لدفع المرض، فهناك بعض الابتكارات الغير مسبوقة في تصميم مواد جديدة تكون مرتعا للبكتيريا النافعة ليتم استخدامها في التصميم الداخلي للمنازل وحتى المستشفيات. ففي المستقبل قد يصبح بامكاننا الحصول على معايير ومحددات أكثر وضوحا وقابلة للقياس للحكم بدقة على جودة الفراغات الداخليه

وخلاصة القول أن المعمار مرتبط أرتباطا وثيقا بصحة الإنسان وإن كنا لا زلنا في محاولة فهم وتفسير الشيفرة الميكروبية للفراغات الداخلية، لابد لنا ان نأخذ في عين الاعتبار هذا البعد الغير مرئي اثناء تصميمنا وحتى في حياتنا اليومية كمصممين وأفراد. 

 

 

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *